عيد الأضحى المبارك يذكرنا بذكريات عظيمة.. علَّنا نأخذ منها العظة والعبرة، ونتعلم منها ما يجب أن نتعلمه من درس. وأولى هذه الذكريات هي المحنة التي تعرَّض لها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- حينما رأى في المنام أنه يذبح ولده الغالي إسماعيل -عليه السلام-، ورؤيا الأنبياء حق، ولا بد أن تنفذ.. إنها محنة ما بعدها ابتلاء، لكن قوة الإيمان بالله تعالى والرضا بقضائه يهون أمامهما كل شيء؛ فعزم إبراهيم –عليه السلام- على تنفيذ أمر ربه، ومن العجب أنه لم يفعل ذلك خلسة أو أثناء نوم ولده وفلذة كبده، ولكنه أشركه في الأمر بكل إيمان الأنبياء وحنان الأبوة: "يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى…" (الصافات: 102)، ويقينًا أنه يعلم سلفًا رد ابنه على سؤاله، فهو نبت طيب من نبت طيب، وإلا ما جرؤ على توجيه هذا السؤال، حيث إنه موقف يتجمد فيه اللسان، وتتوقف فيه أحبال الصوت عن عملها في مقياسنا نحن البشر، لكنهم رسل الله عز وجل. ويرد الابن البار على أبيه ثابت الإيمان: "يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرْ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين" (الصافات: 102). ما أروعه من رد في موقف تشيب له الرؤوس ويذهب فيه عقل الحليم، لكنها قوة الإيمان؛ فكل شيء يهون في سبيل رضى الله تعالى، فهو صاحب النعمة يمنحها لحكمة ويسلبها لحكمة أيضًا يعلمها هو. لكن الله اللطيف بعباده بعد أن علّم إبراهيم -عليه السلام- درس قوة الإيمان والإذعان لمشيئته، أراد أن تقر أعين الأب بأنه الغالي ويواصل مسيرة الحياة، حيث سيخرج من نسله أعظم أنبياء الله على الإطلاق محمد (صلى الله عليه وسلم) "فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم" (الصافات: 103 - 107). وثاني هذه الذكريات في عيد الأضحى المبارك هي ذكرى حجة الوداع، حيث خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها خطبته الجامعة، حيث وضع بها أعظم دستور عرفته البشرية على هدي كتاب الله تعالى، وتطبيقًا لما جاء فيها بكلمات غاليات جامعات مانعات، أدمت مقدمتها قلوب المؤمنين وقرحت مآقيهم لا شك وهم يسمعون رسولهم يودِّع هذه الدنيا، وقد كان سندهم ونورهم طوال السنين لكنه -صلى الله عليه وسلم- طمأنهم في نهاية خطبته، وهو يقول لهم: "وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه". يبدأ -صلى الله عليه وسلم- خطبته بقوله: "أيها الناس.. اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا". ثم يضع أسس الفلاح والنجاح للمسلمين، ويحدِّد معالم المجتمع الراقي "أيها الناس.. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت".