الأسباب الباعثة على الكذب هناك بواعث كثيرة تدفع صاحب النفس الدنيئة إلى الكذب، ومنها: أولاً: قلة الخوف من الله وعدم مراقبته في كل دقيقة وجليلة. ثانياً: محاولة تغيير الحقائق وإبدالها سواء لرغبة في الزيادة أو النقصان وسواء للتفاخر أو لمكسب دنيوي أو غيره مثل من يكذب في ثمن شراء أرض أو سيارة، أو إيهام أهل المخطوبة بمعلومات غير صحيحة وغيرها. ثالثاً: مسايرة المجالس ولفت الأنظار بقصص ومعلومات كاذبة. رابعاً: عدم تحمل المسئولية ومحاولة الهرب من الحقائق في الأزمات والمواقف. خامساً: التعود على الكذب منذ الصغر وهذا من سوء التربية فهو منذ نعومة أظفاره يرى والده يكذب وأمه كذلك فينشأ في هذا المجتمع. سادساً: المباهاة بالكذب وأنه نوع من الذكاء ومن سرعة البديهة وحسن التصرف. ما لا يحسبه الناس كذباً ومن الكذب الذي لا يُوجب الفسق، ما جرت به العادة في المبالغة، كقوله: طلبتك كذا وكذا مرة، وقلت لك: كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذبا، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به، أن يُقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح. وقد كان أهل الورع يحترزون عن التسامح بمثل هذا الكذب. قال الليث بن سعد: كانت عينا سعيد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فقال له: لو مسحت عينيك؟ فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك؟ فأقول: لا أفعل وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني؟ فجلس الربيع وقال: أرضعتيه؟قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت؟ ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعلمه. قال عيسى ـ عليه السلام ـ: إن من أعظم الذنوب عند الله أن يقول العبد: إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم. وقال الرسول -صلي الله عليه والسلام: {من كذب في حلمه كلف يوم القيامة عقد شعيرة}. ومما لا يحسبه الناس كذباً ويتساهلون فيه: 1ـ دعوة الصغير لأخذ شيء، وليس مع الدَّاعي شيء: عن عبدالله بن عمر قال: أتى رسول الله في بيتنا وأنا صبيّ صغير فذهبت أخرج لألعب، فقالت أمي: يا عبدالله، تعالى حتى أعطيك. فقال رسول الله : {وما أردت أن تُعطيه} قالت: تمرا. فقال: {أما إنَّكِ لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة}. فليتنبّه الآباء، ولتتنبه الأمّهات إلى هذا، فإنَّهم يرون هذه الكذبات خير ما يدرأ عنهم المتاعب ويجلب لهم المنافع. ولنربِّ الأبناء على الإسلام، ولنغرس فيهم الصدق، وإيَّانا أن نكذب عليهم، فذلك من أقوى الأساليب التي تجعلهم كذَّابين، وهذا الصَّحابي الجليل عبدالله بن عامر قد روى لنا بنفسه ما جرى مع أمِّه حين كان صغيرا، إذ أن الصغير، شديد الحفظ لما يسمع والتقليد لما يرى. 2ـ التَّحدث بكل ما يسمع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : {كفى بالمرء كذبا أن يُحَدِّث بكلِّ ما يسمع}. وفي رواية: {كفى بالمرء إثما أن يُحدِّث بكل ما يسمع}. ولربما ينقل أحدهم الحديث بغير تثبت، فيقول: هذا ما سمعته. ولا أنقل سوى ذلك، وماذا لو كان ما سمعه تهمة زنا لرجل عفيف، أيظلّ ينقل هذا؟ ومن منا يرضى لنفسه أن يتحدَّث عنه بمثل هذا؟ 3ـ التحدّث بالكذب لإضحاك الناس: عن معاوية قال: قال رسول الله : {ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذبُ، ليُضحِك به القوم، ويلٌ له ويلٌ له}. واشتهرت ـ وللأسف ـ أسماء من وراء هذه المعاصي، وامتلكوا الأموال والقصور، وأدخلوا السرور إلى نفوس الناس بزعمهم، فراقب الناس حركات الممثلين بكل اهتمام، وتلقّى الناس هذه البضاعة بالقبول، وتبرير ذلك، بأنه ترويح للنفوس، وإذهابٌ لبؤسها، وتبديدٌ لعناء الحياة، وما ذاك إلا لأنَّه موافقٌ لهوى نفوسهم.