ミ☆ミ ►╔ اعماق مجهوله ╗◄ ミ☆ミ

وفي جلسة من جلسات الشعر كان الحاضرون يتناوبون سرد ( الكسرات) قلت لكبيرهم : حدثني عن العيون 00 ماذا سمعت عنها وماذا قالوا فيها ؟ قال : أي العيون تقصد ؛ وأنت تعرف أنّ كل عيون وادي ينـبع قد جفت ونضب ماؤها ، واندثرت كل معالم الزراعة فيها 00 قلت لا تقلب علينا المواجع ولا تحرّك الأحزان ، دعنا من العيون التي جفـت وحلقْ بنا في عيون الشعر التي لا ينضب معينها ولا يجف رواها 00 أليست هي التي تمثـل لغة التخاطب بين العاشقين في أغلب الأحوال كما قال الشاعر:
وتعطّـلت لغة الكلام وخاطبت عيني في لغـة الهوى عيناك
قال الراوي : كل أنواع الشعر تتحدث عن(العيون) كوسيلة من أهم الوسائل التي تجذب العاشق ويكون بسببها مغرما لا ينفك من غرامه ؛ وأكثر ما تظهر هذه المعاني في كسرات (المشتكى) التي لن تمر مناسبة أو ليلة من ليالي الرديح إلاّ ولها فيه النصيب الوافر00 يقول الشاعرأحمد الكرنب يرحمه الله :

ما للعـيون المها حـرّاس .... اللي تحـت ظــل حاجبـهـا
ما يكفها عن عذاب الناس ... استشهدوا مـن ســبايبـهـا


ويقول أيضا :


مغرم سواد العيون اللي..الساهية ذابلات أهــداب
كل ما انتظر وتبا ينـلي ..أوجـد على نونهـا حرّاب


أما الشاعر (عايد القريشي ) فهو يؤكد أنّ العيون قد تعود بالمغرم التائب إلى الغرام من جديد إذا ما كانت هذه العيون من النوع التي تتوفر فيها صفات معينـة :

العيــن لا ظلّـها الحاجب .. واستكملتْ من حـلا واهـداب
كيف القضـيّة مع التايــب.. اللي انرمى بسهمهـا وانصاب


ويقول كذلك في المعنى نفسه :

عيني لهـا فالمناظــر راي .. واسبـابهـــا من مناظرهـــا
لا راح رايـح يجيهـا جـاي ... هــذا مـثـل ذاك يسـهـرهـا


قلت له : لقد أصبتَ الحقيقة وفهمتَ قصدي 00قال :
ولكن الشاعر المبدع ( أحمد سليمان الريفي) يتكلم عن العيون بمرارة وأسى ويبث شكواه حزنا على فقده نعمة البصر عندما يقول :

آه العمى يـا كـواني كــي... لما انحـرق قـلبي الشاكـي
عند العرب كن ما بي شـيْ . ولنه اختـلى طـرفي الباكـي


( ولهذه الكسرة رواية أخرى)
غير أنّ الشاعر الرقيق أحمد الدبيش يرى أن للعيون وظائف متعددة ومنها : المواساة بالمشاعر التي تعبر عنها بالعبرات لتبرهن بصدق وفائها لمن تواسيه حيث يقول :

عيون واست عيون تنـوح ... وبرهنت في مشاعـــرها
وعيون خيّـم عليها شحوح... بِِِِِِِِـخْـلت عليهـا مصادرها

صراع العين والقلب

كثيرا ما يتردد في مشتكيات الرديح صراع محتدم بين قلب الإنسان الذي غالبا ما يسوق صاحبه للوقوع في الغرام وبين طرفه الذي يتحكم بالرؤية ثم يصدر الأمر بالموافقة أو عدمها ، والشعراء يصطنعون بذلك خلافا وهميا ؛ أو أنهم يستندون إلى ما يقال ( القلب وما يهوى) ، وكأني بهم يريدون التعبير عن خلاف أزلي بين عقل الإنسان وبين عاطفته التي غالبا ما توقعه في مشاكل غرامية وعاطفية دون تريث ورويـة 00

الشاعر محمد علي الأمير يقول :

أعـتـب على قلبـي اللـي حـب... ولا علـى طــرفي اللـي شــاف

عـيــاتهـــم للعتــاب أقـــــرب ... لا صــار مـا بينهـــم ميـــلاف



ويأتيه الجواب عاجلا من الشاعر ( محمد أبو شعبان) :

القلــب بيـن الضــلوع مـغـب ..والطـرف للقـلب تــلـغــراف

طـرفـك عن القـلـب ما يحجب.. وعاتــبه يا سـمي لا تخـاف



أما الشاعر ( محمد أبو قملة ) فقد وصل به الأمـر إلى التفكير في الذهاب إلى المحكمة للفصل بين قلبه وطرفه ؛ حيث يقول :

قلبــي وروحــي عِــدا للـطرف ...في مـزايــم الـود مخـتلفـيـن

الطرف راضـي بحكم العــرف .. وذوليــك للمحكـمــة باغيـــن

والشاعر ( الكرنب) يحاول التقريب بين عينيه وقلبه بقدر المستطاع حيث يقول:

قــرّبـْت عـيني علـى قـلبـــي... لمحاكـمـة يا الذي تـوحـــون

مدري الســبب مين في غلبي ... القـلب ولاّ حـجــــاج النــون

وشاعر آخر يحاول مـنع طرفه عن هـواه خوفـا من هذه الإشكاليـة فيقول:

أمـانــع الطـرف واصــدّه .. من خــوف يخـلف هـواه القلب

بعديـن من يـقــدر يـــردّه .. لـنّـه ابـتلـى في هـــواه وحــب

أما الشاعر ( ناصر الحجوري) فهو ما زال يطرح سؤاله لأهل الفكر علّهم يفيدونه في حل هذه المعضلة :

قـلبـي أميـــر الجسـد والعيــن .. تـخالفـوا والضـحيـة الـروح

أتــرك رضـا مين وارضي مين .. سـؤال لأهـل الفـكر مـطـروح



ونختم بهذه الكسرة مع ردّها للشاعريْن ( الكرنب وعايدالقريشي) على اعتبار أنّ الصراع ليس له مبرر وغدت المسؤولية مشتركة بين القلب والعين :

يقول الكرنب في مشتكاه :

الطرف شــاف العجيـب ومال .. والقـوا على القـلب صـاليهـم

منـه لـه الحــق بـاستـكمـــال .. لـنّـك تـنصّــبْت قـــاضيـهـم



فكان الرد الشافي من القريشي حيث يقـول :

الطـرف آلـة جــذب وارسـال .. والقـلب يـرغــب ويــدعـيـهـم

لو كـان حـطّــوا عليـه اقـفـال .. مـالــه حقـيــقــة يـــداعـيهــم








شعراء على دكة الاحتياط


كثير من شعراء الكسرة الذين شبوا عن الطوق وأصبحوا في منزلة تسمح لهم بالبروز واعتلاء المنصة لإحياء ليالي الرديح منفردين ؛ نجدهم في حرج شديد ومعاناة أشد مما يعتريهم من سطوة التقاليد وقبضة الخروج عن المألوف ويستمرون على هذه الحال عشرات السنين أو أكثر من ذلك وهم مرافقين لشعراء المقدمة أو مكملين للعدد تحت بند ( الشاعر فلان ورفاقه ) وهم في الحقيقة مشاركين وفاعلين قد يتساوون أحيانا مع شعراء الصف الأول 000 ولو تصفحتم كتب الرديح وملازم الكسرات لما وجدتم لهؤلاء اسما أو رقما إلا ما ندر00 فإلى متي يستمر هذا الوضع الخاطئ الذي لا يشجع على بروز الشعراء وأخذهم مكانتهم الطبيعية في صفوف الرديح 0 ونتيجة لهذا الظلم نجد بعضهم يلجؤون إلى شعر المراسلات لممارسة هواياتهم وتسجيل مشاركاتهم !!

والذي أراه في هذا المجال : أن كل شاعر أخذ كفايته من المشاركة تحت بند الرفاق الذي أشرنا إليه أعلاه وأصبح قادرا على الوقوف وحيدا وهو يرغب في ذلك يجب أن تعطى له الفرصة ليثبت مقدرته ويصقل موهبته والبقاء للأصلح 00 بل إنني من المنادين وبشدة أن لا يقف الشعراء مجتمعين في صف واحد فقد وقع السابقون في هذه الأخطاء وظل مجتمع الرديح يتوارثها جيلا بعد جيل ؛ إذ من الظلم كان وقوف الكرنب والقريشي مثلا في صف واحد أو أحمد سليمان وأبو شعبان أو ذيبان وبنيـه العروي فكل واحد من هؤلاء لـه مذاق خاص ولـه أسلوب مميز ولـه نكهة شعرية محسوسة ؛ فكيف يستمتع المشاهد والسامع والناقد عندما نخلط كل هذه المواهب الفذة المبدعة ونفرض عليهم أن يتنازل أحدهم للآخر حياء ومجاملة في تكميل كسرة أو الرد عليها؛ ويبدو لي أنه من هنا نشأت إشكالية تداول الكسرة وأصبح الناقلون والرواة ينسبون هذه لفلان وتلك لعلان حسب أهوائهم ورغباتهم ؛ لأن الوضع الذي كان قائما وما زال يساعد على ذلك 00 فعندما نسمع كسرة جميلة مثل :


كـل ما اتجـهنا لـنا مـع درب .. نـبغى بعـيـد المـدى يـقـرب

نلقى طــريق المروّح صـعـب ... نـرجع ونــلقى الطريق أصعب


هذه الكسرة بـدأها الكرنب وأكملها القريشي ولكن من الصعوبة تداول الكسرة بهذه الطريقة فنجد أنها تنسب لأحدهما ويهضم حق الآخر والأمثلة كثيرة على ذلك 00

لذا فإنه لا داعي للحساسية فلو أخذ كل شاعر لحنا كاملاً لا يشاركه فيه أحد ممن يتساوى معه في المقدرة والكفاءة لرأينا تنافسا شريفا ينهض بشعر الكسرة ويثري إنتاج الشعراء ، فلم يكن الشعر في يوم من الأيام عملا جماعيا ؛ إنه إحساس وأسلوب وخيال وفن ومشاعر جياشة وقد عايشت أنا شخصيا بعض الليالي التي يتقابل فيها شاعران فقط فينتابهم الفرح والاستئناس والنشوة لينعكس ذلك على ليالي الرديح نجاحا وتألقا وصفاء ينبع من الإجادة والتحدي 0 ففي إحدى الليالي حضر الشاعر الملهم (الكرنب ) إلى الرديح ولم يجد رفيقه (عايد القريشي ) فأحجم عن المشاركة إن لم يحضر القريشي ليقابله ، وأرسل في طلبه وبدأ اللحـن بكسرة الكرنب :



كـلفـت وارسلــت تـلغــراف .. بحضــور عـايد إلى الميـدان

لأن أنـس المصـافـا صــاف ... والآن وقــت المعــانـي زان

فرد القريشي :

بيـنـاتنا مـا يصيــر خــــلاف .. لأنـنا في الطريـــق اخـــوان

ارسم وهـات المثــل لا تـخاف .. والزيــن ترجــح بـه الأوزان



فإن كان ما أشرنا إليه في بداية هذا الموضوع حق مشروع ورأي صريح فهل نلمس من الشعراء المعنيين موقفا جريئا يحفظ لهم حقوقهم و ينعش أجواء الرديح0



السـلام والترحيـب


دائما ما تبدأ مناسبات الرديح (بكسرة )السلام في أول لحن من ألحانه ويبدأ السلام الشاعرالضيف وهو يمثل صفّه كاملا من الشعراء والبحرية وغيرهم من المدعوين يلقيـه على الشاعر المضيف صاحب الأرض إن صح التعبير 00 وهذا العرف والتقليد يعتبر أصلا من أصول الرديح ، وهو أيضا ما يتم في شعر المراسلات 000 ومن أمثلة كسرات السلام نورد ما يلي :

طول المسافـات والأميـــال .. لأهل المواجـيب نطـويــهـــا

سـلام مـثل المطــر هــلاّل .. لا هـلْ بــديـــــار يحـيـيهـــا


ولكن ما الذي يحدث لوأنّ أحد الشعراء تعمّـد أو تجاهل هذا التقليد ؟؟ ففي إحدى المناسبات بدأ الشاعر ( الكرنب) الرديح مخاطبا صاحبه ( القريشي) قائلاً :

يـوم البخــت ربــنـا جــابـك .. صـدفـه مـلاقـى بـلا ميـعـاد

بسـألـك وا ســــال نــوابــك .. عـما نـقــص فـالأمـور وزاد
ونلاحظ أنه بـدأ (المشتكى) دون أن يأتي بالسلام ! فما كان من الشاعر(القريشي) في الصف المقابل إلاّ أن يلفت نظره إلى هذه المخالفة غير القانونية في عرف الرديح وأصوله ؛ ولفت النظرهذا قد لا يخلو من نبرة احتجاج وامتعـاض فماذا قـال القريشي :

ِوشْـبـك على القـيـل وش صابك .. ويـن السـلام الذي يـنـقــاد

ولاّ المعـانـي على حسـابــــــك .. مـا عاد يبـقى لنا مـيــــراد

وكل سلام لابد أن يأتي بعده ترحيب من الشاعر المقابل وهذا معروف لدى كل المسلمين حيث أنّ إلقاء السلام يستوجب الرد عليه0 فما الذي يحدث لو أن هذا الشاعر لم يرحب بمن ألقى عليه السلام ؛؛ تمعنوا معنا في هذه المحسوسات اللطيفة الرقيقة بين الشاعرين (بنيـه العروي وعايد القريشي) يقول عايد في أول كسرة من ذلك الرديح :

سجّـل لنـا بـــأول الــوارد .. بمناسبـة دعــوة الأفــــــــراح

سلام زايــد عــدد زايــــد أكبر عـدد في أوسع الألــواح

الرد من ( بنيــه )

راع الـوفـاء دايـمـا رايـد ... يمشـي دروبه مسـا وصبـاح
كـلا على مشهـده شـاهـد .. والطيب من عـادتـه وضـّـاح


ونلاحظ أن الشاعر( بنيّه) لم يرحب بسلام صاحبه على الرغم من أنّ ألفاظه وتعابيره كانت غاية في الأدب وحسن الاستقبال0 ولكن الأصول أصول كما يقولون 00 فماذا سيفعل الشاعر القريشي ؛ مع العلم أن بين هذين الشاعرين الشيء الكثير من الوفاء والصحبة والمودة ، وهو: أي القريشي يعرف أن صاحبه لم يتعمد أو يتغافل الترحيب به ولكن عن غير قصد 000 فكان رد القريشي :

شتى المنابــع وعـدّك عـــد .. من منـبعـه منعـش الأرواح

لـو قلــت ليـا هـــلا فالــرد .. أسيـر راضي عنـه مـرتـاح

وبسرعة يتدارك ( بنيـه) هذا الأمر معتذرا ومؤكـدا الترحيب بسلام صاحبه :

ما عنـدنـا فالمقـاصد قصــد .. ترحيب من خاطــري مرتــاح

كم لك على الطيـب متواجد ... لـو زحـزح الغيـر ما تـنـــزاح




طبيب الغــرام

على الرغم من أنّ كل المشتكين والمغرمين لا يثـقون في الطبيب الذي يختارونه لمداواتهم لكنهم يصرون على الذهاب إليه ، ويلتمسون عنده أسباب الشفاء لعلّـتهم ، ثم يتهمون هذا الطبيب بالمكر والخداع والوقوف ضد رفع المعاناة عنهم أو تخفيف آلامهم 000 هذا هو الشاعر ـ المرحوم ـ محمد أبو شعبان يتهم طبيبه بعدة اتهامات 00 ويقول :



طبيـب قلبـي تـمكّــر ليـه .. وسار يسـعى على ضـــدّي

يجوز من بعد حـط ايـديـه .. يقـول مالـك دواء عـنــدي



أما الشاعر ( عايد القريشي) فقد لجأ إلى طبيب أجنبي مما اضطره إلى إحضار مترجم بينهما وهو يقول :

دكتور قلبــي وقـف ساعات ياخـذ ويعـطي مع امترجــم

واللي فهمْـتُـهْ يقـلــهْ فـــات اللي سـقي مـن غـرامـهْ سـم

وهو يؤكد في كسرة أخرى بأنّ هناك مؤامرة ضده وقد حجبـوا عنه الدواء ولم يتمكن حتى من الذهاب إلى الطبيب الشعبي :
عنّـي جميــع الـدواء حُـجــبْ لا طـب صحــي ولا تجبيــــر

مقصــودهـم صحتـي تذهـب وتـروح تحـت العـنــد تغــريـر

كما أن الشاعر ( بنيّـة العروي) يرحمه الله لم يكتف بطبيب واحد للكشف على علتـه وهو يقول :



حضّـرْت للقلـب أستاذيــن .. واحد تخصص وواحــد عـام

لما اكشفـوا عـلـة المسكين .. قــالـوا بقــيلـه بـعـمــرُه زام



غير أنّ الشاعر ( فهد أبو سلمي) يرحمه الله تجاوز كل الحدود المعروفــة في الطب وأحضر سبعة أطباء للكشف عليه وعلى الرغم من ذلك فلم يتحقق له شفاء من دائه وهو يردد متحسرا على شبابه :



سبعه أطـبــاء أتـوا ليّــه .. مخصــوص لمعالج الأجـراح
والكـل منهـم نظــر فيّــه .. قـالــوا خســارة شـبابــك راح


أما الشاعر ( الكرنب) فهو يتهم الدكتورالذي يعالج قلبه بالقساوة وأنه ظالم لا يعرف العدل ولا الإنصـاف حيث يقـول :


دكتور قلبي قوي ما يخاف .. مـا يـلد في حالة الإنسان
ما يعرف العدل والإنصاف ... مُجبل على الظلم والعصيان


ونختم بكسرة الشاعرالأستاذ/ عبد الرحمن صديق الذي ترك طبيبه وخرج من المستشفى عندما وجد ـ مصادفة ـ طبيباً آخر يستأنس لمعالجته وعلى يده الشفاء بإذن الله فيقول :


خصمي لـقيته في مستشفاي ... اللـي أراجع طبيبي فيه
قلي طـريق الشفا من جاي .. عـندي لجرحك دواء يشفيه


والملاحظ هنا وفي معظم المشتكيات أنهم يقصدون بالطبيب خصمهم الذي هم مغرمون به ويتلوعون بسببه 00
* * *
قـاضي الغرام


كما جعلوا للغرام طبيبا فقد نصّـبوا له كذلك ( قاضيا) ولكنه قاض من نوع خاص دائما تجده ضد المتظلمين أو هكذا يقول من جرّبـوه فالذي يعرفه الجميع أن من يوكل إليه حل القضايا يسعى لحلها بإخلاص وإعطاء الشاكي حقوقه إلاّ (قاضي الغرام) فهو على العكس يقف في صف الظالم ويلغي حجة المظلوم ؛ ويقصدون بالقاضي أحيانا الشاعر المقابل 00أو هو الخصم الذي بيده حل المعضلة الغرامية


يقول الشاعران ( محمد بشيبش وعبد الرحمن قاضي ) :



ما بحــت لخـلافكــم ســــدي .. واســرار في القلب مخـفـيـهـا



يا راعي النـوْب


مناسبات الرديح أكثرها عادة ما تكون مرتبطة بمناسبات الزفاف وصاحب المناسبة الذي يطلقون عليه ( راعي النـوْب ) يهتم كثيرا بدعوة أهل الرديح أو (الردّاحة) كما يسمونهم ؛ يكتب لهم خطابات خاصة بهم غير رقاع الدعوة التي توجه لعامة الناس وهذا دليل على أن لهم مكانة مميزة بل إنه كان يذهب مندوب خاص يسلم هذه الخطابات ( للرداحة ) فردا فردا وبالطبع تكون دعوات شعراء الرديح أكثر اهتماما وأليق مكانة وليس أمام الجميع إلاّ تـلبية الدعوة باعتبارها نوع من الوفاء المتعارف عليه بين الناس ؛ فإذا حضروا للموقع يتقدمهم شاعرهم ويتم الاحتفاء بهم وإكرامهم كما هي العادة ثم يبدأ الرديح بأول لحن من ألحانه وفيه لابد من التنويه من قبل الشاعر بأنه جاء ومن معه تلبية للدعوة ومشاركة للأفراح ووفاء لصاحب الدعوة 00

يقول الشاعر أحمد سليمان الريفي مخاطبا راعي النوْب :



من قــدّم الطيــب نمشـي لـه.. مالي عــذر عــقـب جاء داعـيـه

من زود طــيبــــه وتكـميــله .. جـينـا لـراعـي الوفـاء نــوفيــه



وفي رديح آخـر يعبر الشاعر الكرنب عن ترحيبه بدعوة الداعي :



يــلي لـفتــنـا مــكـاتـيبــــه .. يــا مــرحبــــا والتحيـــــة فيــــه

والجمـع كــلا مـحيــيـبــه .. مـن رايـــــق البــــال متــوريــــه



وشاعر آخــر يعبــر عن المعنى نفسه بأسلوب آخــر :



جيــنــا أنــا والوفـــاء إخـوان .. والطيــب معــنـا مـحاذيــنــا

لجــل الـذي كــاتب العنـــوان ... مـن يـــوم جيـــنا يحيـيـنـــا



وهذا شاعر أملج ( حامد الصيدلاني) يرحمه الله أعطى وعدا بحضور مناسبة للرديح في ينبع ولم يتأخر عن الحضور على الرغم مما اعترضته من ظروف 000ويرد السلام قائلاً:



واجب ولا لـي عنــه مجنـــاب .. واللـي عـطــا وعــد يوفي بـــه

سلام فــايــق عــدد وحســـاب.. وبـصــوت عــالـي نـغـنــي بــه



وأحيـانا يتكلم الشاعر باسم صاحب النوب ـ إذا كان من أهل الديرة ـ مرحبا بالحاضرين ومبتهجا بحضورهم كما يقول الشاعر عايد القريشي :



مـن راعـي النــوْب ومـوصّــيه .. اللـي حـضـر للـصفـا نـاظــر

نــكـثــر تــراحيــب ونحـيـيـــه .. اللـي بنـا فالصــفـا خــابــر



وبالطريقة نفســها يعبـر الشاعران أحمد سليمان والقريشي بهذه الكسـرة:

نــكثـر تــراحيــب بـا لخـطـّـار ..واللـي حضـر والوجـب جـابـه

يــــدوم لــي راعـــي المــقــــدار .. اللـي قـــدومــه فـــرحنـا بــه



أما الشاعر بنيه العروي ( يرحمه الله ) فيعـتبر نفسه مع ( راعي النوب) خطوة بخطوة مرحبا بالضيوف المدعوين :



حــنـا هنــا للمـوافـــى جــنــود .. جمـيعنــــا فـيــه خـــدّامـي

لـو كــل ليلــه تـجيـنــا وفـــود .. بالطيــب واقف على اقـدامي



شعر الحكمـة في الكسرات


من أغراض شعر الكسرة المتداولة قديما وحديثا (الشكوى ، والعتاب ، والغزل ، والمواساة ، والحكمة ، والدعابة ، والرثاء والمديح ، والوصف ، والهجاء ، والوجدانيات 0 وغيرها من الأغراض التي غالبا ما يحتويها الشعر عامة بكل أنواعه ( الشعبي والفصيح )


ليس هذا هو الموضوع الذي نريد التحدث فيه فكل واحدة من هذه تحتاج إلى حديث خاص بها وهذا ما سنعرض له مستقبلا بمشيئة الله 00

ولكن الكسرات التي تأخذ جانب الحكمة والأمثال لها كثير من المعجبين والمتذوقين ؛ يرددونه في مجالسهم ويحفظونه في صدورهم ويتداولونه في كل مناسبة لها طابع الإحساس بالتجربة وعراك السنين 00

يقول الشاعر المبدع ( أبو مدهون ) يرحمه الله :


واللــه يـا مقبــلات أيــــام .. مـُــرّه وفيهــــا الحمــوضيّــــة

اليـوم نبــكي زمــان العام .. ومن عـــاش نبـكـي على ذيّــه


ويقول الشاعر ( المجيدير ) يرحمه الله :

المـــرء لا ســـــار متـعـــافــي .. تـجيــه الأصـحــاب بالكـرّه

ولـنـو مـرض صاحبه الوافي .. ينــظر عليـه فالســنه مــرّه


أما الشاعر ( حمد أبو حمرون ) يرحمه الله فهو يرى أن الإنسان إذا لم يجـد حولـه من يحتزم بمشورته ؛ فهو حائر خاسر ولو كان من ذوي الرياسة والرأي :

مــغلــوب ريّــس بـلا حيـّـان .. مـحتـــار لـو كثـّــر التدبيـــر

سنبـوك سـاري بـلا سكـان .. وطشـّـه المـــد في التـغـزيــر


والشاعر الأنيق في ألفاظه ومعانيه ( محمد أبو كرسوم) يرحمه الله يبحث عن الصبر ولو بوزن الدرهم لعله يخـفـف معاناته التي ما برحت تعاوده في أكثر مراحل عمره :

ويــن الصبــر دلـّـنـي ياعيـن .. أبغــى منــه طــب لفـراقـي

درهــم منه لا تـكـرر زيـن .... يبــعـد هـجـوسي وضيـّاقي


كما أنّ الشاعر ( أحمد الدبيش) لـه في هذا الجانب أشعار تنطق بروعة الحكمة ومثاليتهـا حيث يقـول :

مِـن كان سـاسـه ذهــب والمـاس .. مـا تغـيـر الناس نبـراسه

غـــزر البحـر يكــشف الغـطـّاس .. يـظهـر مدى قـوّة امراسه

ولـه أيضاً :

العــقــل لـهــل العـقــل ز يــنهْ .. تـجعـل لهـم قـدر بين الناس

وان كـــان ضــاعـت موازينــه ... شبه البنــا مع خـلو الساس



وللشاعر (أحمد سليمان الريفي) يرحمه الله عدد من الكسرات تتميز بالحكمة وعمق التجربة حيث يقـول :

مـــا كـــل مـا يمتــنـيه الحـــي .. يبــلــغ منــه مـنتـهى قـصــدُه

لازم يـــقــع في المـواسـط شـي .. مهـمـا ابــذل المـرء من جهـده


ولــه أيضـا كسرة مشهورة دائما تتردد على ألسنة الناس وهي :


لـعـلهـــا مــا تـجيـنـي فـيــك .. ازهـــود الأيـام يابن آخــي

يا شـاد عضـدك بـعضـد آخيك ... يــوم انـّـهُ الغيـــرمتراخـي


عساكر الرديح وجيوشه

كلما استعرضنا ما يدور من تحديات بين صفوف الرديح وشعرائه الذين هم أشبه بقيادات عسكرية ميدانية يتبين لنا أنّ هذه اللعبة الشعبية إنماهي نبتة من نبتات الرجولة والتحدي والعنفوان الجميل المحمود ، فهذا الشاعر يفتخر بمن معه من أفراد يعتبرهم عساكر في جيش جرار ولكنهم جاءوا لأداء مهمة غير مهمات عساكرالحرب المعروفين لدينا وهو يقــول :



أقـــــول في أول المنتـــــــاج .. ســلام وابغـى أخبــر النـايـــب

جيــنا لكســب الجميـل أفواج ...في معسـكر الجيش والصـاحب



وهاهو الشاعر الكرنب (يرحمه الله) يبدأ هجومه على خصمه بجنوده وقيادته الحربية :

بجنــود عسكــر وقايد حـرب .. لمهاجمـات الصـفـا ناويـــن

أمــا كسبنـــا ونـلنـا الكســـب .. ولا ســوى نسيــر متساوين

والشاعر( دخيل الله أبو مازن) يرسم من مخيلته لوحة جميلة لجيش منظم يقوده في طوابير أمامية وخلفية ومعه عتاده من خيام ومستلزمات حيث يقول :

جينــا طوابيــر وخيـامي .. ومن لا حضر يومنــا يبكيـــه

طــابـور خلفي وقـــدامي .. واللـي مكـــذب يجــي يرعيه

أما الشاعر ( أبو شعبان) يرحمه الله فقد خذلـه أصحابه وهو دائما يحب التحدي بجيشه وعسكره وطائراته الحربية ، ولكنه هذه المرة على غير العادة يبدو شبه مستسلم لخصمه ويقول :

اللـي مضـى عسكري ألفـيــن .. جنـــود فيهم وطيــاريــن

واليــوم هـذا معي عشـريــن .... وباقـي الجــند معـذوريــن

ولكن المعركة ستكون حامية الوطيس من جانب الشاعر الكرنب عندما جهز قواته الحربية في مشهد أشبه بالحرب العالمية التي يشترك فيها عدد غير قليل من الدول والأساطيل العسكرية وهو يخاطب الشاعر فهد أبو سلمي :

عسكر معي ألف يونانــي .. والفيـن قــايـد من اليابــان

والفيـن جندي بريـطــاني .. والفين ريـس من الألمــان



من ساحل العاج وافـانـي .. اسطـول ثاني من البنيــان

واسطول ثانـي مريكـاني .. غير الصـواريخ يا غلبان

ولكن ( أبو سلمي) عندما وجد نفسه غير قادر على مواجهة هذه الأساطيل المتقدمة من دول أوربا وأفريقيا وأمريكا واليابان تذكر أنه يملك وسيلة أقوى وأقل تكـلفة وأجـدى نفعا وأضمن نجاحا ولجأ إلى الله واعتصم بقوة الإيمان والعقيدة واثـقا من النصر :

وخاطبه متهكما ومستخفا به وبقواته :

جميــع ما قلت ما اشقــاني .. ما دام دستــورنـا القــرآن

ما بين حرفيـــن والثانــي .. أجْـعـلـك لعبـة مع البزران





لأن قــاضي الحـكــم ضــدي .. أجـيــب حجــــة ويــلغـيــهــا









وهــذا الشاعر(ذيبان الفايدي) يرحمه الله مع رفيقه القريشي يزعم أنّ أخصامه ذهبوا إلى المحكمة التي يقصدونها وأحكموا غلق أبوابها ووضعوا الأقفال عليها لمنعهم من تقديم الشكوى :



بــاب المحــاكم عليـا انصـــك .. واعْـــداي حطّــوا عليه اقـفـال

وش لــه وسـيــله بهــا ينفــك .. وابــقـى عـلى دعــوتـي مازال



ولكن الناصحين لهم يرفضون هذا الإدعاء إذا ما أحضر صـك الحكم وشهود الحال فإنه يستطيع أن يدك الأبواب المغلقة بما لديه من بيــنة وإثــبات :



البــيّــنة والشهــود وصـك .. اتــوقــف المعــتدي فـالحـال

وتــدك بــاب الظــوالــم دك .. إن كـان في المـحكمـة عــدّال



أما الشاعر ( القريشي) فقد عرض قضيته على ثلاثة قضـاة لأهميتها ولكنه أصبح خلي اليد ولم يكسب شيئا بسبب عنادهم ووقوفهم ضده كما يقول :

قـضيْــت ليــلي خــلي اليـــد .. وانــا محـــكّــم ثــــلاث قضــاة

كــلاً مـعـي صـــار مـتعـنّـــد .. بــخـلاف ما تـقـتضـي العـادات



غير أنّ الشاعر ( الكرنب) يريد أن يكون للمحبين قاض خاص بهم مثل مالهم طبيب على المنوال نفسه :

كِـســبْت فـن الهوى بــخــلاص .. من نــاس مكـســب منـاتجـهم

مـا للمحبـيــن قـاضي خـــاص .. ولا أطـبـــــــاء تــعالجـــهـــم


وهؤلاء شعراء صف (جدة) بعد رفع شكواهم يتهمون محامي القضية بالتواطؤ :

دعــوى وفيـها المنــازَعْ طـال .. وانــا العــواقــب مــداريــهــا

خـصـمي معــاه المحامـي مـال .. بـالحــــق عـيــا لا ينـهـيهــا



لكن شعراء صف (ينـبع) يحـثـونهم على الصمود ومتابعة القضية :

لـو القضـية في روس جـبال .. لا تـقــول صـعـبـه مـراقـيـها

لـو انهــا مــن شهــر شــــوال . إمـديــك تطــــرد وتـحـييـهـا



وبعد أخذ ورد يصـدرون حكمهـم في القضيـة دون تـردد وعلى المشتكي أن يقبـل بهذا الحكم حيث ليس بعد ذلـك إلاّ قـفـل السجلات وكسر اللحن:

خــذ لــك حـكــم يقفـل الإرسال .. كـل السجــلات يـطـويهـا

طـيــب الخـواطر وصـفو البال .. يـنهي المشـاكـل ويـلغيـها


الـــودُ والهَــوى


معظم مشتكيات ( الرديح) وكسراتـه تجعل من الود والغرام قضية أساسية وموضوعا شبه ثابت في ( ألحانه ) وتحكي ما يعانيه أهل المودة وأصحاب الهوى نظرا لما يتصفون به من رهافة الحس وأثر المعاناة و قد لا يجدون متنفسا أو وسيلة لشرح حالتهم وبث شكواهم إلاّ من خلال كسرات المشتكى في لعبة الرديح ، أو عن طريق بعث هذه الشكوى بالمراسلة إلى من يعز عليهم 00 يقول الشاعر ( جميل بن فرج) يرحمه الله :

الـــود يا أهــل الهـــوى خــلاّ.. سـهــران طــرفي يـهـل دمــوع

وان كـان هــذا الهجــر ظــلاّ .. لا كـل ولا اشـرب ولا أشكي جـوع

والشاعران ( الكرنب وعايد) صدرت منهما شكوى مشتركة يصفان فيها حالتهما وما وصلا إليه بسبب الهوى ويقولان :

بـاع الهـوى واشتـرى فـينـا .. من دون قـيـــمة ودون نـظــــام

من بعـد ما كـان شــارينـــا .. يـجـوزوســط المسامــة انســـام

ومن منّا لا يعرف الكسرة المشهورة للشاعر( أبو شعبان) يرحمه الله وهي التي جعلها المطرب( فهد بلان ) ضمن إحدى أغانيه ؛؛ يقول أبو شعبان :

ولــد الهوى دائـمــا تـعبـــــان .. مـكتــوب لــه قـلّــة الـراحـــة

مـثل السفيـنـــة بـــلا ربــــان .. يـلعــب بهـا الموج في الباحـة

(والباحة) طبعاً هي مياه البحر العميقة وليست مدينة الباحة !!

والشعراء يختـلفون في وصفهم للود والهوى بمختلف أنواعه وأصنافه وبحسب غاياتهم وأغراضهم ؛ فبعضهم يصفه بالنار المحرقة ؛ مثل ما يقول الشاعر( دخيل الله أبو مازن) :

لـي قلب يا أهــل المودّة طــش .. في نــــــار مـا تـنطفــي بالمـــاء

لـو كــان كـل العبــــاد تـــرش .. مثـــل المؤشــر مــع الظـــــلمـا

وبعضهم يصفـه بالنسيم الساري كما قال الشاعر (أحمد الدبيش) :

ليــله نسيــم الهوى ســـاري لحــظـه من الـوقـت ما غــفـّيْت

أشـغـلْـت قلبـي مـع أفـكـاري وانـا على الـدرب ما اسـتهديـْت

وبعضهم يعتبره كأسا من المرارة يتجرّعه مرغما كما يقول الشاعر

( جبارة العروي) :

أعطيتــهم مـن جنــابـي ود .. وداً نــقـي مـا عليــه أدنـــاس

لـكنـهــم كـافـأونـي بــضــد .. وجــرّعــوني مـــرار الكـــاس

أما الشاعر( ناصر الحجوري) فهو يطرح تساؤلا لأنه لم يجد في الغرام والهوى فرقا بين العاشق والمعشوق فيقول:

مـين الـذي فالـهوى سارق .. ومـين الذي فالهـوى مسـروق

هــو الـهوى مـلك للعـاشـق .. ولاّ الــهوى مـلك للمعشــوق

حيث لابد أن يكون الود والغرام متبادلا ومتكافئا وعادلا في الأحاسيس والشجن والمعاناة 0

وهذه كسرة قديمة اعترف قائلها بأنه تورّط أو على الأصح ورّطه عقله في الهوى على غير العادة وأوقع نفسه في مشكلة لا مخرج منها وهو يقول:

قــالوا فـنــون الهــوى ســهله .. قــال العــقـل غيـر تـــرقــاها

رقـيتــها صـــرت فـي وحــلـه .. لا قــادر أنـــزل ولا أســلاهـا

ولعل أشهر كسرة في مجال الهوى هي الكسرة التي قيلت من صف ينبع البحربقيادة الكرنب عام 1373هـ في زفاف الرويسي:

كيف الهـوى سـار له مسلك .. يسعى المساء والصباح يطــوف

في قلب محجــوز ومــدرك .. بين العـِضـا والضلوع صـفوف

وكان الرد الشافي من الشاعر المبدع ( دخيل الله أبو مازن ) يرحمه الله في صف ينبع النخل :

ما ظــن يخفى على مثـلـــك .. ربـي خــلق لـك نــظـر وتشـوف

وان كــان ما هو طبيعـه لك .. يجري مجـاري الدمـا في الجـوف